كتبمؤلفات ابو النور

كتاب العودة من الموت

كتاب العودة من الموت

 

فقرة من كتاب العودة بعد الموت

 

 

حياة البرزخ

والحق أن النعمة الإلهية لا تتخلي عن الإنسان أبدا منذ بداية نشأته إلي الغاية ,وفي أى طور من أطوار وجوده , حتى عند الموت , حينما تتزلزل أركان الإنسان وتنهد جوانبه ,فترتعد مفاصله وتبرد أعضاءه
وينعقد لسانه وتتحشرج أنفاسه ويشعر بأن روحه قد بلغت الحلقوم
وأنه مقبل علي تلك اللحظة التي ستنعدم فيها حياته ,لحظة (الموت ) وأنه سيفني لا محالة, وبالفعل يفني ..
ولكن العجيب أن الإنسان بعد لحظة سكرات الموت ومفارقة الحياة يجد أن الله قد أعد له المفاجأة الكبري , وهي أنه ما زال موجودا , وأنه لم يتحول إلي عدم ..
بل يفيق ليجد نفسه مقبلا علي رحلة وجودية جديدة من نوع آخر ..
إنه مقبل علي سبح روحي وانطلاق بلا حدود ولا حواجز . ووداع لهموم الجسد واستراحة منه,وهذه الرحلة هي رحلة الروح وقد تحررت من قيد هذا الجسد الترابي , وخرجت طائرة تحلق منطلقة من سجن اللحم, والعظم, والجلد ,فإن كل اللطائف المعنوية الستة الموجودة فيك من قلب ..وروح ..ونفس ..وسر ..وخفي.. وأخفي هي في حقيقتها مصابيح من النور قد تم إخفاءها في صندوق معتم وهو جسدك .. تنتظر تلك اللحظة التي يفتح فيها الصندوق حتي تشع بنورها وتلمع في الأفق ..
كل المواهب الروحية من مشاعر ..ووجدان ..وتأمل ..وبصيرة.. وإرادة ..وهمة ..كلها فتافيت من السكر وضعت في كيس من الجلد واللحم وأحكم إغلاقه ..طيور رقيقة تم حبسها في قفص مصنوع من خشب العظم  وسلك الأعصاب ..
فالقفص الصدري هو في حقيقته قفص حديدى ,محبوس فيه القلب سجين بين قضبان أضلاعه ,ينتظر تلك اللحظة التي يفر فيها حرا وينطلق.. والأنف محبوس فيها النفَس ,وهو حبل النفْس الممتد بين الشهيق والزفير ,فإذا انقطع حبل النفْس وخرج النفَس الأخير, انطلقت النفْس وفرت إلى عالمها الأصلي ..
والبصيرة محبوسة خلف زجاج العين مقيدة بزنازين البصر.. وهذه الزنازين هي تلك المشاهد الضيقة التي تراها العين وتظل محجوبة بها وتعطل عين البصيرة عن كشف الحقائق المطلقة ..فإذا هلك الجسد وانهار السجن ,وكسر الزجاج ,خرجت الروح وتبعها البصر.. وتعطلت العين ليتحول البصر الى بصيرة تنطلق مسرعة لتلحق بروحها ..
والعقل مسجون في سجن الدماغ ,معتقل بين خلايا المخ وتجاويف القلب , فإذا تخلص العقل من معتقل ,اللحم ,والدم, وتحرر من جدران الدماغ ,وشرايين القلب الصنوبري ,فر هاربا مسرعا ليلتحق بالروح وينضم اليها ..
والإرادة ..والمشيئة ..مقيدة في أعمدة الأيدي والأرجل, فأنت لا تمشي إلا إذا أردت, ولا تحرك يدك إلا إذا سبقت هذه الحركة شئ بداخلك يسمي إرادة , ولكنك كم من مرة أردت أن
تطير , أن ترتفع ,تحلق , لكن يداك ورجلاك لا يقدران علي تحقيق إرادتك , هما أضعف من ذلك ..
أنت تريد أن تغير الكون ..تنصر المظلومين ..تعين الضعفاء ..تردع الجبابرة .. لكن جوارحك عاجزة عن تحقيق ما تشاء ..
تريد النجاح ,والسعادة ,وأن تمد يدك نحو السماء لتغوص بأصابعك في السحاب وتقبض منه قبضة بكفك لتكتشف ملمسه ..
ولكنك في النهاية قد لا تنجح ,ولا تسعد ,ولا تمد يدك للسحاب فيدك أقصر من إرادتك ,وأضعف من مشيئتك , وهي لاتطول السحاب ,ولا تصل إلي السماء ,هى تلبي إرادتك فقط إذا أردت أن تهرش في قفاك ,أو تمسح مخاطك ,واحمد ربك علي ذلك ..ومسكينة تلك الإرادة العظيمة التى لا منفذ لها سوي الأيدي والأرجل ..
أخيرا لقد تخلصت من قيد الأيدى والأرجل ..انطلقت مشيئتك تطير ..وتحلق .. التحمت بالروح ..روحك ..
الآن ما تشاءه يتحقق.. ما تشتهيه يكون ..لأن مالك الملك كله قد وعد بذلك  ..( لَهُم مَّا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ ) 1
(لَهُم مَّا يَشَاءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ, ذَٰلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ ) 2
كل مواهبك الروحية قد تحررت من سجن الدنيا ,وخرجت من  صندوق الجسد وقفزت من أسوار الجوارح ..لقد أزاحت روحك حجب الشهوة ,والإنتظار, والخواطر ,والغير, 
والسوى .. كشفت غطاء الجسد ,والجوع ,والعطش ,والغرور ,والكبر الزائف, ووهم الأنا والأنانية .. لقد تحررت .. نالت الحرية .. الحرية الحقيقية ..
  إنه نوع من التحرر الرائع المريح الحالم , بغض النظر عن المصير أو الجزاء عن العمل , فإن مجرد استمرار الوجود الإنساني هو نعمة أخري من الله علي عباده ,حتى وإن كان هناك من سيتمني الفناء نتيجة ذنوبه وإجرامه ولكنه سيعترف لله بهذه النعمة الجديدة, نعمة الحياة بعد الموت مع اعترافه بذنوبه (قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ ,فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَىٰ خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ )3
ومن ينكر أن هناك شيئ بعد الموت اسمه حياة البرزخ أقول له شيئا واحدا .. كيف تنكر أمرا يحدث معك أنت شخصيا كل يوم ,أنت تدخل البرزخ  يوميا ولا تشعر ..تزوره كل يوم ,وتحل به كضيف كريم , إن أهل البرزخ يستضيفونك كل ليلة عندهم معززا مكرما ,
بل وتأخذ واجب ضيافتك من شاي وقهوة, وأحيانا “طعام دسم” فأنت عندما تنام , تخمد جميع حواسك , فعيناك مغمضة لا تبصر , ويداك جامدة لا تبطش , وقدماك هامدة لا تمشي , وأذناك في صمم لا تسمع , ولسانك  ساكت لا يتكلم , وفمك مطبق لا ينطق ولا يأكل , أنت فاقد الوعي تماما ..
بل أنت شبيه بالميت إلي حالة تكاد تصل إلي حد التطابق , ومع ذلك فأنت في نومك تري …

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

‫2 تعليقات

  1. من اروع الكتب التي قرأتها
    كتاب لن تمل من اعادة قراءته
    فى كل سطر سر من الاسرار يحتاج لعقل واع وروح منيرة وقلب متدبر ليدرك حقيقته
    افادنا الله بعلومك يامعلمنا الشيخ محمد ابو النور

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى